يتعرض الانسان في حياته لكثير من أنواع البلايا التي تلم به في نفسه وماله وذويه والتي لا يخلو منها أحد سواء كان مؤمنا مطيعا أو عاصيا متمردا أو كافرا ملحدا وتكون تلك البلايا للمؤمن رفعة لدرجاته وتكفيرا لسيئاته واختبارا لرضاه عن ربه فإن صبر نال الدرجات العلى (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) لكنها تكون للعاصي عقوبة قليلة مؤقتة على تفريطه وابتعاده عن الصراط المستقيم وتكون داعية له ومحفزة على التضرع إلى الله والفرار اليه كما قال الله سبحانه (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) كي يعود على طريق الجادة والصواب والتقى مرة أخرى.
بينما تكون للكافرين نقمة وخسفا وانتقاما منهم وتعجيلا بالقضاء عليهم لكي ينالوا العقوبة الأكبر التي تنتظرهم في الآخرة (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
ومن أشد أنواع الابتلاءات وأعظمها الموت , فقد خصه الله بتسميته وحده دون غيره من الابتلاءات بإسم المصيبة فقال سبحانه (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) , والموت هو المصيبة التي لا يمكن أن تنجبر أبدا.. فقد يصح المريض بعد سقمه وقد يغتني الفقير بعد عوزه وقد يعود الغائب بعد انقطاع خبره ولكن لن يعود الميت إلى الحياة مرة أخرى.
وأشد أحوال الموت إيلاما للإنسان أن يفقد الإنسان ولده حيث يمثل الولد للإنسان الحاضر الجميل والمستقبل المزهر فيفقدهما الإنسان معا بفقد ولده ففي الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد)).
وقد ابتلى الله صفوة خلقه وأكرم أنبيائه عليهم الصلاة والتسليم بهذا البلاء , فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بفقد كل أولاده ماعدا فاطمة في حياته وعندما فقد ولده ابراهيم قال والدموع تملأ عينه (إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
ولكن الابتلاء الأعظم في تاريخ البشرية الذي سماه الله سبحانه " البلاء المبين " فقال سبحانه (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) فصاحبها في هذه الآية تأكيدان بحرف إن الناسخ في بدايتها وحرف اللام مع كلمة هو التي تفيد الاختصاص والتفرد.
ففي ابتلاء الخليل إبراهيم عليه السلام بأمر بذبح ولده اسماعيل تنفيذا لأمر الله أسباب متفردة تجعله من أعظم الابتلاءات في تاريخ البشرية , فقد اجتمع فيه عدة ابتلاءات يستحيل على المرء تحملها مالم يكن ذا قوة ايمانية عالية ويقين بالله لا يتزعزع.
ومن هذه الأسباب:
1- فقد الولد , فالإبن أقرب للإنسان من نفسه وأحب إليه منها بل قد يتحمل الإنسان على نفسه كل ألم مهما عظم ولكنه لا يتحمل أن يصاب ولده بأي إيذاء إذ يتألم ألما أشد لا يقوى عليه فكيف بالأب أن يرى ولده جسدا بلا روح بعدما كان يملأ الأرض لهوا ولعبا ومرحا وسعادة.
2- كون إسماعيل ابنه الوحيد آنذاك: فربما تهون المصيبة إذا كان للإنسان سلوى عند وجود أبناء غيره ولكنه تعظم عليه المصيبة جدا إذا كان هذا الولد وحيدا فيشعر الأب عند موت ولده الوحيد بانقطاع أثره مما يضاعف ألم المصيبة , ومن المعلوم أن البشارة بإسحق جاءت بعد الابتلاء بذبح اسماعيل (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ).
3- كون ابراهيم شيخا كبيرا طاعنا في السن مع وجود زوجة عاقر عجوز لا يُرجى منها الولد ظل معها عمره كله دون إنجاب , فيذكر كتاب السير أن إبراهيم عليه السلام قد ناهز الثمانين عند ولادة اسماعيل فكيف بسنه عند ذبحه إذ يقولون أنه قد اقترب من المائة عام أو جاوزها.
4- كون الأمر بذبح اسماعيل عندما بلغ معه السعي والولد في هذه السن يُرتجى منه الخير والنفع لوالده ويتعلق به قلب الأب كما يتعلق الولد فيه بأبيه , فقد يحزن الإنسان على موت ابنه وهو طفل صغير ولكن حزنه الأشد أن يفقده عندما يبلغ السعي على مشارف الرجولة والأب في مرحلة الشيخوخة وعندها تكون حاجة الأب لابنه أكثر من حاجة الابن لأبيه.
5- كون الفقد لولده قتلا لا موتا فقتل الابن يورث حزنا مضاعفا على أن يلقى حتفه بمرض أو بغيره إذ يكون في المرض معاناة للابن قد تدفع الأب للدعاء لموت الابن كي يستريح من تلك الآلام فيخف الألم على الأب عند وقوع الموت , ولكن القتل يأتي فجائيا والابن في كامل عنفوانه فيكون وقع الألم أشد , وبالقطع يكون القتل ذبحا باراقة الدم من أشد وأكثر ألوان القتل معاناة وألما على نفس الأبوين.
6- كون فقده لاسماعيل بالذبح المتعمد لا بالقتل الخطأ فمن المعلوم أن القتل المتعمد ينبت حزنا شديدا والما عظيما عند الوالدين لا يتخلصان منه طيلة حياتهما , ولكن القتل الخطأ أهون عليهما من ذلك.
7- كون اسماعيل عليه السلام شابا طائعا لله بارا بأبويه فلم يكن كافرا مستحقا للقتل إذ يستريح الإنسان لذلك ويجده مرضيا لنفسه مريحا لها إذ أنه ينسجم مع أصول عقيدته , فقد قتل أبو عبيدة أباه في غزوة بدر وقال الصديق لولده بعدما أسلم لو لقيتك في بدر لقتلتك , ولم يكن إسماعيل أيضا مرتكبا لحد من الحدود المستوجة شرعا للقتل فقد ضرب عمر ولده في حد حتى مات ولهذا كان الألم شديدا على ابراهيم عليه السلام.
8- كون المأمور بالذبح هو إبراهيم نفسه وهو الأب الحاني والزوج الأمين والنبي الكريم الذي كان يُكرم الضيف ويحب أن يُدخل البشر والسعادة على من حوله الداعية الرفيق الذي يتودد للناس ويعلمهم برفق أمور دينهم بحلم يصفه ربه به في غير موضع في كتابه (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) وهو الذي كان يدعو الله ويستغفره لأبيه الذي مات كافرا وهو الذي جادل الملائكة لقوم لوط العصاة كي لا يحل العذاب بهم ويطلب إمهالهم (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) حتى جاءه الأمر الإلهي فامتثل (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) فكيف به بمقومات شخصيته تلك أن يقوم بنفسه بذبح فلذة كبده!!!
9- كون الأمر بذبح إسماعيل قد جاء في رؤيا منامية وليس بوحي صريح عن طريق الملك فربما يجد في نفسه عذرا أو مبررا للتسويف إنتظارا لأمر الله الصريح ولكنه يعلم ويوقن أن رؤيا الأنبياء حق فاشتد الأمر عليه ولو كان أمرا صريحا مباشرا عن طريق أمين الوحي لكان الامتثال أيسر وأخف وطأة على نفسه.
10- كون اسماعيل ممتثلا لأمر الله غير معترض وكون الأم المباركة أيضا ممتثلة للأمر غير معترضة مما يلقي على الخليل عبئا إضافيا لا يتحمله بشر إذ الجميع الآن ينتظر قيام إبراهيم بتنفيذ الأمر
ومن حكمة الله العظيمة في الأمر بذبح إسماعيل أن قلب إبراهيم ظل متعلقا بالله متوكلا عليه ليس فيه أحد غيره حتى عندما ألقى في النار لم يطلب ولم يستعن إلا بمولاه ولكن جاءه الولد الذي حُرم منه طول حياته وبلغ السعي وأصبح يرتجي منه كل معروف فأراد الله – وهو العليم سبحانه - أن يختبر قلب عبده إبراهيم ويختبر تمكن حب الولد من قلب النبي الذي اتخذه الله خليلا (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ).
فإذا بالخليل يعلنها لربه أن قلبه خالصا لله وحده ليس فيه أحد سواه ولم ينل منه أي حب سوى حب خالقه ومولاه فحينها تعطل السكين ولم يذبح ونزل الأمين بالفداء بالذبح العظيم والبشارة بولد آخر لإبراهيم من زوجته العاقر العجوز ليعلموا جميعا أن الله على كل شيئ قدير وأنه إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
تقبل الله أضحياتكم وكل عام وأنتم بخير.
الكاتب: يحيى البوليني
المصدر: موقع المسلم